-->

وفاة الزعيم الروحي للمراطين عبد الله بن ياسين في معركة تامغرا ضد البرغواطيين

 


استمرت الفتوحات وتوسعت دولة المرابطين التي بدأت تتوغل في المغرب الاقصى لنشر الاسلام، وفي خضم هذه الانتصارات، اتجهت جيوشهم صوب بلاد تامسنا ففتحوها ووصلتهم اخبار ما عليه قبائل برغواطة الملحدة بساحل تامسنا على المحيط الاطلسي من معتقدات وثنية فاسدة، وتقاليد منافية لعقيدة التوحيد وانتشار المحرمات ومظاهر السحر والشعوذة والتنجيم، فرأى عبد الله بن ياسين أن الواجب تقديم جهادهم على جهاد غيرهم، فخرج مع ابو بكر بن عمر في جيش عظيم من المرابطين، يقدر بخمسين ألف راجل، وراكب فساروا إليهم، وقد تجهزت قبائل برغواطة لمواجهتهم فكانت معارك ضارية، مات فيها من الفريقين خلق كثير، ونزل عبد الله بن ياسين الى ساحة المعركة، يحرض المرابطين ويذكرهم بفضل الشهادة في سبيل الله وما اعده الله من نعيم مقيم للشهداء والمجاهدين، وثبت المسلمون في هذه الحرب، وقد فرت جيوش برغواطة من أمامهم الى الجبال والحصون. 


وتقدمت عساكر المرابطون في طلبهم، وانفرد عبد الله بن ياسين في قلة من أصحابه، فلقيه منهم جمع كثير، فقاتلهم قتالاً شديدًا حتى أصيب بجراح قاتلة، فحُمل إلى مقرِّ القيادة في معسكر المرابطين، وقد ادرك انه ميت لا محالة، فجمع له شيوخ المرابطين وحثَّهم على القتال وحذَّرهم من التفرقة والتحاسد، في اخر وصية عظيمة سجلها له التاريخ وهو على فراش الموت، يقول فيها: "يا معشر المرابطين، إنكم في بلاد أعدائكم، وإني ميت في يومي هذا لا محالة، فإياكم أن تجبنوا أو تنازعوا فتفشلوا فتذهب ريحكم وكونوا ألفة وأعوانًا على الحق، وإخوانًا في ذات الله تعالى وإياكم والمخالفة والتحاسد على طلب الرياسة، فإن الله يوتي ملكه من يشاء من خلقه ويستخلف في أرضه من أحب من عباده، ولقد ذهبت عنكم، فانظروا من تقدمونه منكم يقوم بأمركم ويقود جيوشكم ويغزو عدوكم، ويقسم بينكم فيئكم، ويأخذ زكاتكم وأعشاركم" فاستشهد رحمه الله، عشية يوم الأحد 24 جمادى الأولى عام (451هـ=1059م)[1] بعد أن أمضى تسعة عشر عامًا في الجهاد بالسيف والدعوة بالقرطاس والقلم وتعليم الناس امور دينهم ونشر المذهب السني المالكي الذي اصبح سائدا في منطقة المغرب الكبير منذ ذلك الزمن حتى اليوم، ودفن ـ رحمه الله ـ فوق ربوة تشرف على وادي يعرف بكريفلة، ليلحق بركب المجاهدين، ويكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.[2]
لم يكن رحيل بن ياسين سهلا على المرابطين الذين فقدوا الاشعاع الروحي والزعيم الديني الذي ظلت مكانته وهيبته ووقاره بينهم بمثابة المحفز والمحرك لانتصاراتهم وزادهم المعنوي في مواجهة الصعاب وايجاد الحلول للمستجدات، وفض المنازعات والخلافات بالنصح والارشاد والرفق في الدعوة والمعاملة بالتي هي احسن، فصاروا في دين الله اخوانا. 
رحل بن ياسين وقد اسس لدولة كبيرة مترامية الاطراف على منهاج النبوة تحمل لواء الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، تضم كوكبة من الامراء والفقهاء والعلماء والدعاة الذين تحولت حياتهم الى جهاد مستمر ومجالسهم الى حلقات للعلم والمعرفة والتفقه في الدين، والوعظ والارشاد والسير على هدي الانبياء والصحابة والتابعين، وعم الدين والخيرأهل الصحراء وكبرت دولتهم بعد حروب كثيرة، يقول البكري عن قبائل صنهاجة: "وهذه القبائل هي التي قامت بعد الأربعين والأربعمائة بدعوة الحق، وردِّ المظالم، وقطْع جميع المغارم"[3]
ويشير المؤرخ ابن أبي زرع إلى أنه بالرَّغم من غلبة البداوة على المرابطين إلا أنهم كانوا أهل دِين مَتِين عدَلوا في أحكامهم وواظبوا على الجهاد[4] ويصف واقعهم في تلك الايام ايضا بالقول: "وكانت أيامهم أيام دعة ورفاهية ورخاء متصل وعافية وأمن، تناهى القمح في أيامهم إلى أن بِيعَ أربعةُ أَوْسُق بنصف مثقال، والثمارُ ثمانية أَوْسُق بنصف مثقال، والقطاني[5] لا تباع ولا تشترى" إلى أن قال "وكثرت الخيرات في دولتهم وعمرت البلاد"[6]. 
ما يعكس الدور الذي لعبته هذه الدولة في بسط الرخاء والاستقرار في المنطقة وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية بعد ضم اودغشت التي كانت بيد غانا واحتلال سلجمانة جنوب المغرب انتعشت الحركة التجارية وازدهرت تجارة الذهب ازدهارا لم يسبق له مثيل، كل ذلك انعكست اثاره على السياسة المالية لدولة المرابطين. 
ويصف محمد بن محمد الشريف الإدريسي (ت 560هـ / 1165م) الحركة التجارية من الشمال الى السودان فيقول: " تجار مياسير يدخلون إلى بلاد السودان بأعداد الجمال الحاملة لقناطير الأموال من النُّحاس الأحمر الملون، والأكسية وثياب الصوف والعمائم والمآزر، وصنوف النظم من الزجاج والأصداف والأحجار، وضروب من الأفاويه والعطر وآلات الحديد المصنوع. 
وما منهم مِن رجل يسفر عبيده ورجاله إلا وله في قوافلهم المائةُ جمل والسبعون والثمانون جملاً، كلها مُوقَرَةٌ، ولم يكن في دولة الملثَّمِينَ أَحَدٌ أكثر منهم أموالاً ..."[7]
كل هذه الحالة من الرخاء والازدهار ونعمة الامن وتوحيد القبائل المتناحرة وانتشالها من واقع الجهل والضلال والعصبية، الى نعمة الاسلام والايمان، كانت بفضل الله سبحانه وتعالى ودعوة العالم الرباني والامام المصلح عبد الله بن ياسين بعد سنوات من الصبر والرباط وتحمل الاذى، ولله در الشاعر حين قال: 
الْأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ 
كَالْأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا وَإِنْ أَبَى عَادَ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ 
رحم الله العالم الجليل والمجاهد الكبير عبد الله بن ياسين وجزاه خيرا عن الاسلام والمسلمين.... يتبع 
إعداد حمة المهدي
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعض المراجع:
[1] تاريخ ابن الوردي (1/344-346) والاستقصا للناصري (2/7-19)
[2] ـ البيان المغرب لابن عذاري المراكشي (4/8-17)، وتاريخ ابن الوردي (1/344-346)، وتاريخ ابن خلدون (6/183،182)، وقلائد الجمان (ص171)، والروض المعطار (ص46)، والاستقصا للناصري (2/7-19) 
[3] البكرى، ص164، وانظر ابن عذارى، ج4، ص10-11. 
[4] ابن أبي زرع، ج2، ص92. 
[5] "القطاني" يقال هو اسم جامع للحبوب التي تطبخ مثل العدس، واللوبيا، والحمص وما شاكلها. ويقال القطاني خضر الصيف. ابن منظور، ج13، ص344-345. 
[6] ابن أبي زرع، ج2، ص94. 
[7] محمد بن محمد الشريف الإدريسي، "المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس"، مأخوذ من كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، ليدن، مطبعة بريل، 1968م ص66.

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *