-->

فوائد واضاءات من تفسير العلامة محمد بن صالح العثيمين لسورة الفاتحة


فيما يلي فوائد واضاءات من تفسير العلامة محمد بن صالح العثيمين لسورة الفاتحة:
سورة الفاتحة سميت بذلك لأنه افتتح بها القرآن الكريم ، وقد قيل : إنها أول سورة نزلت كاملة
سورة الفاتحة لها مميزات تتميز بها عن غيرها ، منها أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، ومنها أنها رقية إذا قرئ بها على المريض شُفي بإذن الله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي قرأ على اللديغ ، فبرئ : ( وما يدريك أنها رقية ) . وقد ابتدع بعض الناس اليوم في هذه السورة بدعة ، فصاروا يختمون بها الدعاء ، ويبتدئون بها الخطب ويقرؤونها عند بعض المناسبات ، وهذا غلط : تجده مثلاً إذا دعا ، ثم دعا قال لمن حوله : ( الفاتحة ) يعني اقرؤوا الفاتحة ، وبعض الناس يبتدئ بها في خطبه أو في أحواله ، وهذا أيضاً غلط لأن العبادات مبناها على التوقيف ، والاتباع .

هل البسملة آية من الفاتحة أو لا ؟ في هذا خلاف بين العلماء فمنهم من يقول : إنها آية من الفاتحة ، ويقرأ بها جهراً في الصلاة الجهرية ، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة لأنها من الفاتحة ومنهم من يقول : إنها ليست من الفاتحة ولكنها آية مستقلة من كتاب الله وهذا القول هو الحق ودليل هذا : النص ، وسياق السورة . أما النص : فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : إذا قال : ( الحمد لله رب العالمين ) قال الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : ( الرحمن الرحيم ) قال الله تعالى : أثنى علي عبدي ، وإذا قال : ( مالك يوم الدين ) قال الله تعالى : مجدني عبدي ، وإذا قال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال الله تعالى : هذا بيني وبين عبدي نصفين ، وإذا قال : ( اهدنا الصراط المستقيم ) قال الله تعالى : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) ، وهذا كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة ، وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وعمر ، فكانوا لا يذكرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في أول قراءة ولا في آخرها ) والمراد لا يجهرون والتمييز بينها وبين الفاتحة في الجهر وعدمه يدل على أنها ليست منها . أما من جهة السياق من حيث المعنى : فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق ، وإذا أردت أن توزع سبع الآيات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله تعالى : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وهي الآية التي قال الله فيها : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) لأن ( الحمد لله رب العالمين ) واحدة ( الرحمن الرحيم ) الثانية ( مالك يوم الدين ) الثالثة ، وكلها حق لله عز وجل ( إياك نعبد وإياك نستعين ) الرابعة يعني الوسط وهي قسمان : قسم منها حق لله ، وقسم حق للعبد ( اهدنا الصراط المستقيم ) للعبد ( صراط الذين أنعمت عليهم ) للعبد ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) للعبد . فتكون ثلاث آيات لله عز وجل وهي الثلاث الأولى ، وثلاث آيات للعبد وهي الثلاث الأخيرة وواحدة بين العبد وربه وهي الرابعة الوسطى . فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست من الفاتحة كما أن البسملة ليست من بقية السور .
قال تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) فهنا تقديم وصف الله بالألوهية على وصفه بالربوبية : وهذا إما لأن ( الله ) هو الاسم العَلَم الخاص به ، والذي تتبعه جميع الأسماء ، وإما لأن الذين جاءتهم الرسل ينكرون الألوهية فقط .
ربوبية الله عز وجل مبنية على الرحمة الواسعة للخلق الواصلة ، لأن الله تعالى لما قال : ( رب العالمين ) كأن سائلاً يسأل : ( ما نوع هذه الربوبية ؟ هل هي ربوبية أخذ ، وانتقام ، أو ربوبية رحمة ، وإنعام ؟ قال تعالى : ( الرحمن الرحيم ) .
في قوله تعالى : ( مالك ) قراءة سبعية : ( مَلِك ) و( المَلِك ) أخص من ( المالك ) . ففي الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة ، وهي أن ملكه جل وعلا ملك حقيقي ، لأن من الخلق من يكون ملكاً ، ولكن ليس بمالك : يسمى ملكاً اسماً وليس له من التدبير شيء ، ومن الناس من يكون مالكاً ، ولا يكون ملكاً : كعامة الناس ، ولكن الرب عز وجل مالك ملك .
قال تعالى : ( مالك يوم الدين ) إن قال قائل : أليس مالك يوم الدين ، والدنيا ؟ فالجواب : بلى ، لكن ظهور ملكوته ، وملكه ، وسلطانه ، إنما يكون في ذلك اليوم لأن الله تعالى ينادي : ( لمن الملك اليوم ) فلا يجيب أحد فيقول تعالى : ( لله الواحد القهار ) في الدنيا يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا مالك إلا هم فالشيوعيون مثلاً لا يرون أن هناك رباً للسموات ، والأرض يرون أن الحياة : أرحام تدفع ، وأرض تبلع ، وأن ربهم هو رئيسهم .
ليعلم أن القراءة التي ليست في المصحف الذي بين أيدي الناس لا تنبغي القراءة بها عند العامة لوجوه ثلاثة : الوجه الأول : أن العامة إذا رأوا هذا القرآن العظيم الذي قد ملأ قلوبهم تعظيمه ، واحترامه إذا رأوه مرة كذا ، ومرة كذا تنزل منزلته عندهم لأنهم عوام لا يُفرقون . الوجه الثاني : أن القارئ يتهم بأنه لا يعرف لأنه قرأ عند العامة بما لايعرفونه فيبقى هذا القارئ حديث العوام في مجالسهم . الوجه الثالث : أنه إذا أحسن العامي الظن بهذا القارئ وأن عنده علماً بما قرأ فذهب يقلده فربما يخطئ ثم يقرأ القرآن لا على قراءة المصحف ، ولا على قراءة التالي الذي قرأها وهذه مفسدة . ولهذا قال علي : ( حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكذب الله ورسوله ) . وقال ابن مسعود : ( إنك لا تحدث قوما ً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) . والحمد لله : ما دام العلماء متفقين على أنه لا يجب أن يقرأ الإنسان بكل قراءة ، وأنه لو اقتصر على واحدة من القراءات فلا بأس ، فدع الفتنة وأسبابها .
قال تعالى : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) . هذا من بلاغة القرآن حيث جاء التعبير عن المغضوب عليهم باسم المفعول الدال على أن الغضب عليهم حاصل من الله تعالى ، ومن أوليائه .
قال تعالى : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) . فقدم سبحانه الأشد ، فالأشد لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين لأنهم أشد مخالفة للحق من الضالين فإن المخالف عن علم يصعب رجوعه بخلاف المخالف عن جهل .
سورة الفاتحة سورة عظيمة ، ولا يمكن لي ولا لغيري أن يحيط بمعانيها العظيمة ، لكن هذا قطرة من بحر ، ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بكتاب ( مدارج السالكين ) لابن القيم رحمه الله .

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *