-->

وَذَكِّرْ ... شرح دعاء " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما "


 رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[([1]).

قرّة أعين: كناية عن السرور والفرح، وهو مأخوذ من القرر، وهو البرد، لأن دمعة السرور باردة([2]). قال الزجاج: يقال: أقرّ اللَّه عينك: صادف فؤادك ما يحبه([3]).

هذه الدعوة الثانية من دعوات عباد الرحمن الذين جمعوا الخصال والفعال الحميدة، ومن جميل الكلمات الحسان من الدعوات، فقالوا: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾: أي يا ربنا هب لنا من هباتك العظيمة الكثيرة أزواجاً، وذرية صالحة ((من يعمل لك بالطاعة، فتقرّ أعيننا بهم في الدنيا والآخرة))([4]) .

فهم يلحّون بهذا السؤال، كما أفاد الفعل المضارع ((يقولون)) أن يرزقهم اللَّه تعالى من يخرج من أصلابهم ومن ذرياتهم من يطيعه، ويعبده وحده لا شريك له .

وهذا الدعاء لأزواجهم وذريتهم في صلاحهم؛ فإنه دعاء لأنفسهم؛ لأن نفعه يعود عليهم، ويدوم في الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ))([5])، وفي الآخرة مرافقتهم في جنات النعيم، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾([6]).

((بل ويعود هذا النفع إلى عموم المسلمين؛ لأن بصلاح من ذُكر يكون سبباً لصلاح كثير ممن يتعلق بهم، وينتفع بهم))([7]).

((وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق، شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى اللَّه عز وجل ، وفي أولهم الذرية والأزواج، فهم أقرب الناس تبعة، وهم أول أمانة يُسأل عنها الرجال))([8]) .

﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾: أي واجعلنا أئمة هدىً يقتدي بنا أهل التقوى، في الفعل، والقول، وفي إقامة الدين، وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين يُقتدَى بهم، هو طلب من اللَّه أن يهديهم، ويوفقهم، ويمنَّ عليهم بالعلوم النافعة، والأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة التي توصلهم إلى هذه المنزلة العليّة .

((وسؤالهم هذا هو كذلك سؤال لأعلى درجات العبودية، وهي درجات الكمَّل من عباد اللَّه، والصدّيقين، وهي درجة الإمامة في الدين، وهذه الدرجة السامية لا تتمّ إلا بالصبر واليقين، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾([9])))([10])، فهذا الدعاء دلّ بمنطوقة ومفهومه على سؤال اللَّه أن يكونوا كاملين لهم ولغيرهم، هادين مهتدين، وهذه أعلى الحالات، وأجلّ الكمالات، ولمّا كانت هممهم ورغباتهم عالية، كان الجزاء من جنس العمل، فجازاهم بالمنازل والدرجات العالية ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا﴾([11]).

وقد بيّن المصطفى صلى الله عليه وسلم علو منازل أهل الغرف، من علوّ، ورفعة المكانة، والمكان، قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: ((بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ))([12])، وفي لفظ لأحمد: ((في تفاضل الدرجات))([13])، وفائدة ذكر المشرق والمغرب بيان للرفعة، وشدة البعد، فدل على سموّ منازل أهل الغرف، جعلنا اللَّه من أهلها (آمين)، وكذلك دلّ على التفاوت العظيم في الدرجات في جنات النعيم.

الفوائد:

1- أهمية هذه الدعوة كسابقتها لثناء اللَّه تعالى على قائليها، وكذلك ملازمتهم، وتكرارهم هذه الدعوة بين الحين والآخر، كما أفاد الفعل المضارع (يقولون).

2-  إن هبة اللَّه تعالى من أعظم النعم، ولذلك توسّلوا بها .

3- إن سؤال اللَّه تبارك وتعالى إصلاح الزوجة والذرية من المقاصد المهمّة التي ينبغي للداعي الاعتناء بها .

4-  ينبغي للداعي أن يعظم رغبته في الدعاء، وأن يسأل اللَّه تعالى أعلى المطالب، وأسمى المراتب، كما في سؤالهم اللَّه تعالى أعلى مراتب الدين ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.

5-  فيه بيان لعظم الدعاء، وأنه من أعظم الأسباب في إعطاء المرجوّ، وأنه يدلّ على عظم كرم اللَّه تعالى، وكمال قدرته، وسمعه، وعلمه، ويدلّ على محبّة اللَّه تعالى له، ولعلك يا عبد اللَّه قد علمت لماذا وصفهم تعالى بهذه الصفات الجميلة، والخصال الحميدة، وشرّفهم بأن أضافهم إلى نفسه الكريمة، فجاهِدْ نفسك بأن تكون على شاكلتهم.



([1]) سورة الفرقان، الآية: 74.

([2])  انظر: تفسير الماوردي (النكت والعيون)، 4/ 161، وتذكرة الحفاظ، 3/ 293.

([3])  انظر: تفسير البغوي، 5/ 227، والألوسي، 5/ 152، ولم ينسباه للزجاج، وقد نسبه للزجاج كثير من المفسرين مثل: غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري، 10/ 203، والرازي في مفاتيح الغيب، 24/ 100،  وابن عادل الحنبلي في اللباب، 14/ 576، والشوكاني في فتح القدير، ص 1230.

([4]) أخرجه الطبري في تفسيره، 19/ 318، وحسّن إسناده صاحب التفسير الصحيح،
3/ 509.

([5]) مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم 1631.

([6]) سورة الطور، الآية: 21.

([7])  تفسير ابن سعدي، ص 688.

([8])  في ظلال القرآن، 4/ 258.

([9])  سورة السجدة، الآية: 24.

([10]) انظر: تفسير ابن سعدي، 5/ 499 بتصرف.

([11]) سورة الفرقان، الآية: 75.

([12]) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم 3256، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف، كما يرى الكوكب في السماء، برقم 2830.

([13])  المسند، 14/ 178، برقم 8471.

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *