وَذَكِّرْ ... شرح دعاء "ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم "
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[([1]).
هذه الدعوات هي في غاية الأهمية، ذكرها ربنا تبارك وتعالى لأهل الإيمان المخلصين من بعد الصحابة رضوان اللَّه عليهم أجمعين من التابعين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، دعوات تدلّ على المحبة والتآخي في قلوب المؤمنين؛ فإن حقوق المؤمن على المؤمن كثيرة، ومنها الدعاء له في غيبته: في حياته، وبعد موته .
بعد أن أثنى اللَّه عز وجل على المهاجرين ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّه وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾([2]).
ثم ثنَّى بالأنصار: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ .
ثم الصنف الثالث من المؤمنين الذين جاؤوا من بعدهم إلى يوم القيامة: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾، فاستوعبت هذه الآيات جميع المسلمين، وليس أحدٌ إلاّ له فيها حق .
﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾: ذكروهم في الثناء عليهم في محبتهم بالسبق بالإيمان، اعترافاً بفضلهم؛ لأن الأخوّة في الدين عندهم أعزّ وأشرف من أخوَّة النسب، فجمعوا في الدعاء بطلب المغفرة لهم وللسابقين، وهذا من كمال الدعوات وأحسنها وأنفعها.
قال العلامة ابن سعدي رحمه اللَّه : ((وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين من السابقين من الصحابة، ومن قبلهم، ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان، أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان، المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين، التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضاً؛ ولهذا ذكر اللَّه تعالى في هذا الدعاء نفي الغل في القلب الشامل لقليله وكثيره، الذي إذا انتفى، ثبت ضده، وهو المحبّة بين المؤمنين))([3]) .
فجمعوا في هذه الدعوة المباركة بين سلامة القلب، وسلامة الألسن، فليس في قلوبهم أي ضغينة، ولا وقيعة، ولا استنقاص لأحد بالذكر في اللسان، دلالة على جماع المحبّة الصادقة للَّه ربِّ العالمين.
قال أبو مظفر السمعاني رحمه اللَّه : ((وفي الآية دليل على أن الترحم للسلف، والدعاء لهم بالخير، وترك ذكرهم بالسوء من علامة المؤمنين))([4]) .
ثم أكّدوا في تضرّعهم بإجابة دعائهم: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾: توسّلوا إليه تعالى باسمين كريمين دالَّين على كمال رحمة اللَّه تعالى، أي: يا ربنا ما دعوناك بهذا السؤال والدعاء إلا لأنك رؤوف رحيم. والرؤوف: اسم للَّه تعالى يدلّ على شدّة الرحمة وأعلاها، فهو أخصُّ من الرحمة.
ومن كانت هذه خصالهم في الحبّ والمودّة في القلب واللسان بالدعاء والثناء لإخوانهم المؤمنين، جازاهم اللَّه تعالى خير الجزاء، قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾([5])، وقد تقدّمت بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن دعا لإخوانه المؤمنين ((من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب اللَّه له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة))([6]) .
ولا يخفى يا عبد اللَّه أن في الإكثار من هذه الدعوة العظيمة خيرات كثيرة في الدنيا والآخرة؛ لما في ذلك من الاستجابة لأمر اللَّه تعالى، وكثرة الحسنات التي لا تُعدُّ ولا تُحصى للداعي بها كما تقدم، وأن الدعاء بهذه الدعوات الطيبة يثمر في قلب العبد حب المؤمنين، والبُعد عن الكراهية، والحسد، والغلّ فتطهر بذلك القلوب، وهذا من أعظم مقاصد الدين.
الفوائد:
1- أهمية هذه الدعوة المباركة التي ينبغي لكل مسلم الإكثار منها في ليله ونهاره، فإن ثمارها ومنافعها لا تُحصى في الدنيا والآخرة.
2- أن من أعظم حقوق المؤمن على المؤمن الدعاء .
3- أهمية سؤال اللَّه تبارك وتعالى المغفرة؛ لأن من عظيم ثمارها زوال السيئات والمكروهات، وحصول النعم والخيرات، والفوز بالجنات.
4- ينبغي للمؤمن ألا ينسى فضل من سبقه بالإيمان، فيذكره بالثناء والدعاء.
5- جمع هذا الدعاء توسلين جليلين من التوسلات المهمة، وهما:
أ- التوسل إليه بربوبيته، كما في قوله: ﴿رَبَّنَا﴾، وباسمين من أسمائه الحسنى: ﴿رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .
ب- وتوسل إليه تعالى بنعمته عليهم بالإيمان، وعلى من قبلهم، وهو توسّل بسابق الإحسان .
([1]) سورة الحشر، الآية: 10.
([2]) سورة الحشر، الآية: 10.
([3]) تفسير ابن سعدي، ص 1012.
([4]) تفسير أبي المظفر السمعاني، 5/ 402.
([5]) سورة الحشر، الآية: 10.
([6]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 19/ 909، ومسند الشاميين، 3 / 234، وأبو يعلى، 2/ 346. وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، برقم 6026، وتقدم.